البودشيشية في أزمة عائلية والكركرية في توسع عالمي.. من وراء كل هذا الصراع؟

الرباط اليوم
لم تهدأ بعد ارتدادات وفاة الشيخ جمال القادري بودشيش، إذ سرعان ما انفجر صراع داخلي حاد بين نجليه منير ومعاذ حول مشيخة الزاوية القادرية البودشيشية، أحد أبرز المراكز الروحية بالمغرب والعالم الإسلامي. صراعٌ لم يعد خافيًا على المريدين والمتتبعين، بعدما بلغ مستويات غير مسبوقة واعتُبر نقطة فارقة في مسار هذه الطريقة التي يعود إشعاعها إلى عقود طويلة.
الزاوية القادرية البودشيشية ارتبطت في الذاكرة الروحية المغربية باسم الشيخ حمزة، الذي استطاع بشخصيته الكاريزمية أن يرسّخ حضورها عالميًا، ويجعلها منبعًا للروحانية والذكر وجسرًا للتواصل مع الآلاف من المريدين عبر العالم. وبعد وفاته، انتقل السر إلى نجله جمال، الذي واصل على نفس النهج، وإن كان في سياق مختلف يطبعه صعود المنافسة بين الطرق والزوايا، وتحديات العصرنة والانتشار الإعلامي.
لكن وفاة جمال، بدل أن تؤدي إلى انتقال سلس للمشيخة وفق الأعراف الروحية، فجّرت الخلاف بين نجليه، حيث يرى كل طرف في نفسه الأحقية بوراثة السر، مستندًا إلى قراءات وتأويلات مختلفة لما تركه والده وجده.
صراع بين الأخ الأكبر والأصغر
المُعطيات المتداولة تشير إلى أن منير القادري، باعتباره الابن الأكبر وصاحب مسار أكاديمي وفكري غني، وجد نفسه في موقع طبيعي لقيادة الزاوية، خصوصًا مع إشارات سابقة من والده الراحل. في المقابل، برز معاذ، الأخ الأصغر، بدعم من تيار رجال الأعمال داخل الزاوية يرى فيه شخصية أكثر قربًا من المريدين، وأكثر قدرة على تجديد الطريقة في مرحلة حساسة.
هذا التجاذب لم يبقَ في حدود النقاش الداخلي، بل خرج للعلن، وأصبح مادة للجدل بين الأتباع، وأداة لصراع النفوذ داخل المشهد الصوفي المغربي.
رسالة إلى الملك تزيد من تعميق الأزمة
في خضم هذه الأزمة، برز تطور لافت حين قامت زوجة الشيخ جمال، وأخواته، وبعض أبنائه، بمراسلة الملك محمد السادس، يؤكدون فيها تشبثهم بالوصية “الجمالية” التي تنص على أن يكون منير هو خليفة والده في مشيخة الزاوية. هذه الخطوة، التي كان الهدف منها حسم الجدل، اعتبرها بعض المقربين من العائلة البودشيشية بمثابة صب الزيت على النار، لأنها عمّقت الشرخ وأظهرت الانقسام بشكل أوضح.
مصدر من داخل العائلة أوضح أن تلك الرسالة “أوحَت وكأن الشرفاء والشريفات فقط هم من يحملون رمزية الزاوية”، في حين أن عائلة بودشيش ليست محصورة في مداغ فقط، بل ممتدة إلى النعيمة مرورًا بأحفير، التي تُعد أصل الزاوية. وحسب نفس المصدر، فإن المريدين البودشيشيين الحقيقيين بدأوا يتحركون اليوم لتقوية حضور الزاوية في أحفير باعتبارها الجذور التاريخية للطريقة.
الزاوية الكركرية.. صعود بديل من العروي
في موازاة ذلك، برزت الزاوية الكركرية الفوزية، التي تتخذ من مدينة العروي مقرًا لها، كأحد أبرز المستفيدين من صراع البودشيشيين. فقد استطاع شيخها فوزي الكركري أن يمنحها إشعاعًا عالميًا بفضل تحركاته الذكية، إذ زار الولايات المتحدة الأمريكية، وكان حاضرًا في جامعة شيكاغو، ما منح طريقته حضورًا لافتًا في دوائر أكاديمية وروحية دولية.
كما تميز الشيخ فوزي بابتكار رمزي لافت من خلال إطلاق لباس صوفي خاص، يتميز بأقمشة مختلطة الألوان، عُرف بين المريدين باسم “لباس الألوان”، وهو ما جعل الزاوية تشتهر عالميًا، وتلفت الأنظار إلى طقوسها المميزة.
وفق شهادات جمعويين مهتمين بالشأن الصوفي، فإن مدينة العروي أصبحت اليوم قبلةً للزوار والمريدين القادمين من مختلف الدول، وهو ما انعكس على الحركة الاقتصادية المحلية، حيث انتعشت التجارة والخدمات بفضل التدفق المتزايد للزوار نحو الشيخ الكركري.
الأكثر إثارة أن مصادر أكدت أن هذا الصراع الداخلي في الزاوية البودشيشية يخدم مباشرة الكركرية، إذ بدأت بعض التحركات تسجل انتقال مريدين من أوروبا كانوا مرتبطين بالزاوية البودشيشية إلى أحضان الطريقة الكركرية. هذا التحول، وإن بدا محدودًا في بدايته، يطرح تساؤلات حول قدرة البودشيشية على الحفاظ على إشعاعها التقليدي في ظل الانقسامات الداخلية.
مستقبل الزاوية على المحك
تعيش الزاوية القادرية البودشيشية لحظة فارقة، إما أن تنجح في تجاوز الخلاف وتوحيد الصفوف حول قيادة روحية واحدة تحافظ على الإرث الكبير الذي خلفه الشيخ حمزة، أو أن تنزلق إلى انقسامات تُضعف مكانتها التاريخية وتفتح الباب أمام زوايا منافسة مثل الكركرية.
ويبقى السؤال المطروح: هل ينجح العقلاء داخل الزاوية البودشيشية في احتواء الأزمة قبل أن تفقد جزءًا من إشعاعها؟ أم أن التاريخ الصوفي المغربي يستعد لمرحلة جديدة تُعيد ترتيب موازين القوة بين الطرق الروحية؟