الملكية والحكومة في المغرب.. إكراه النص ومحك الممارسة
الرباط اليوم: يحيى اليحياوي
في أعقاب حراك 20 فبراير 2011، المزامن لما سمي في حينه بحراك “الربيع العربي”، أعلن الملك محمد السادس، في التقاط ذكي من لدنه لإشارات الشعارات المرفوعة في وجه نظامه بأكثر من 50 مدينة وقرية ومنطقة، أعلن تفهمه لمطالب المتظاهرين، وقرّر في خطاب للشعب عزمه مباشرة إصلاح دستوري “واسع وجوهري”، يعيد ترتيب مفاصل النسق السياسي القائم، ويتجاوز قواعد في اللعب تكلست وترهلت وضيقت من سبل الفعل، فما بالك سبل التفاعل بين بنيات النظام ومن حوله.
لم يكن الإصلاح الدستوري هو المطلب الوحيد المرفوع في وجه النظام، لكنه كان حجر الزاوية الذي يختصر ويختزل كل المطالب الأخرى، بل تم تقديمه في كونه المفتاح الذي من المفروض أن تتفتق عنه كل أبواب الإصلاح الأخرى، العاجل منها كما الآجل على حد سواء.
ومع أن الوثيقة الدستورية التي اعتمدها المغاربة في استفتاء شعبي مباشر في صيف العام 2011، لم تكن كافية لترميم عيوب الصيغ الدستورية السابقة، فإنها كانت ضرورية لتخفيف وطأة رياح “ربيع عربي” لم يكن بمقدور أحد في حينه التنبؤ بمده ومداه، فما بالك تحديد السقف الذي قد يبلغه أو المستويات التي قد يشملها.
وإذا كان الدستور الجديد قد سما بموقع الوزير الأول، الذي أصبح من تاريخه رئيسا للحكومة، وعزّز من المسؤولية السياسية للحكومة أمام غرفتي البرلمان، فإن مضمون الوثيقة لم يذهب بعيدا في اتجاه خلخلة مفاصل السلط التي سنتها الدساتير السابقة منذ دستور 1962 وإلى حين صدور آخر دستور للملك الراحل في العام 1996، أي الدستور الذي مهد لحكومة التناوب في العام 1998:
– فالمؤسسة الملكية بقيت في ظل الدستور الجديد، بمثابة القلب من باقي أعضاء الجسد، إذ أبقى تقريبا على نفس المكانة التي كانت للمؤسسة ذاتها بالدساتير السابقة: “الملك هو رئيس الدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها والحكم الأسمى بين مؤسساتها. يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة”.
ثم إن الملك هو أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وله حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما، وهو الذي يرأس المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للأمن، علاوة على حقه في تعيين السفراء والقناصل والمناصب السامية “الحساسة” وما سواها.
– ثم إن للملك صلاحية تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدر الانتخابات التشريعية وتعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وله صلاحية إعفاء عضو أو أكثر منها بعد استشارة رئيس الحكومة. كما يترأس الملك المجلس الوزاري الذي يضم رئيس الحكومة ووزراءه.. وهو المجلس الذي يحدد الخيارات الإستراتيجية الكبرى للبلاد، ويصادق على مشاريع القوانين التنظيمية والتوجهات العامة لقانون المالية، والذي يعتبر بحق محك العلاقة بين المجلس الوزاري والحكومة من جهة، ومجلس النواب بغرفتيه من جهة أخرى.
– لا يقتصر دور الملك، وفقا للوثيقة الدستورية، على “المساهمة” في إدارة شؤون البلاد (المباشرة في بعض الأحيان)، بل يتعداه إلى الوظيفة التحكيمية التي له أن يعملها بمنطوق الدستور، بين مؤسسات الدولة أو بين القطاعات الحكومية أو السياسية المتنازعة. إنه هنا، برأي البعض، خصم وحَكم في الآن ذاته.
– بموازاة ما أفرده دستور 2011 للملك من اختصاصات، فقد فصل أيضا في صلاحيات رئيس الحكومة باعتباره “رئيس السلطة التنفيذية” (الفصل 90)، إذ أوكل إليه مهمة رسم السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري، وجعل من اختصاصه تعيين جزء من المسؤولين الساميين، وكذا إمكانية اقتراحه على الملك إعفاء عضو أو أكثر من الحكومة. كما يمكنه “حل مجلس النواب بعد استشارة الملك ورئيس المجلس ورئيس المحكمة الدستورية، بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري” (الفصل 104).. إلخ.
هذه ليست قراءة “دستورانية” في مكانة ووظيفة ودور كل من الملك ورئيس الحكومة، بقدر ما هي إشارة سريعة لبعض المتغيرات التي حملتها الوثيقة الدستورية للعام 2011 لأصحاب المكانة والوظيفة والدور.
بيد أن تجربة الحكومة التي ترتبت عن الدستور الجديد، مع المؤسسة الملكية، أبانت عن تعذر كبير في تنزيل البنود التي نصت جهارة على ضرورة تقوية صلاحيات رئيس الحكومة، لدرجة سادت القناعة بأن عبد الإله بنكيران أخفق في ذات التنزيل، لا بل فرّط في صلاحياته، عوض التشبث بها والعمل على تجذيرها بأرض الواقع.
لقد أشرنا في أكثر من مقال ومناسبة إلى أن السر في ذلك إنما يعود في جزء منه إلى قصور الوثيقة الدستورية ذاتها، ويعود في الجزء الآخر إلى تقصير من لدن رئيس الحكومة نفسه.
– أما قصور الوثيقة الدستورية فيتمثل في استمرار احتكار الملك للمفاصل الكبرى للسلطة في المغرب، إذ بالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة الموكلة له (التي لم تعمل الوثيقة إياها إلا إلى إعادة صياغتها وتليين منطوقها ووقعها)، فإن الملك، وإن فوض جزءا من صلاحياته لرئيس الحكومة، يبقى رأس الجهاز التنفيذي بامتياز.
لا يروم التلميح هنا فقط إلى استمرار احتكار المؤسسة الملكية لصلاحية رسم الخيارات الإستراتيجية الكبرى، بل يروم أيضا التأشير على استمرار تمركز التعيينات الأساسية بين يديها بالقطاعات الاقتصادية والمالية الحيوية، كما بالتمثيليات الدبلوماسية الخارجية، كما على مستوى تعيين محافظي المناطق والأقاليم، الذين يخضعون عمليا لسلطة وزير الداخلية (وهو منصب “سيادي”)، حتى وإن كان رئيس الحكومة هو المشرف على الإدارات والمرافق العمومية بمنطوق الدستور.
صحيح أنه قد بات لرئيس الحكومة بعض الصلاحيات على مستوى التعيين في بعض المناصب العليا، لكنها تبقى صلاحيات هامشية، كونها لا تطال إلا المؤسسات الإدارية والتنفيذية ذات الطابع التقني الخالص أو ذات الخاصية التدبيرية الصرفة.
– أما تقصير رئيس الحكومة “فهو من نفسه”، إذ لم يكن مراد عبد الإله بنكيران طيلة الخمس سنوات التي قضاها بالحكومة تنزيل بنود الدستور المكرسة لصلاحياته، بل كان يتطلع، خطابا وممارسة، إلى “كسب ود الملك” و”خلق مناخ للثقة المتبادلة” و”عدم الدخول في تصادم من أي نوع كان مع الملك أو مع المؤسسة الملكية”.. إلخ.
ولذلك، فقد عمد مبكرا إلى رفع شعار “الإصلاح في ظل الاستمرارية”، ولم يتردد في مهادنة “مفسدي الدولة العميقة”، ولم يبد أي نية لمطاردة “العفاريت والتماسيح”، بل طمأنهم جميعا بشعار “عفا الله عما سلف”، للظهور بمظهر رجل الدولة البراغماتي، العملي والمراعي “لحساسية الظرف”.
لقد ذهب بنكيران أبعد من ذلك حينما صرح: “أنا مجرد رئيس حكومة، جئت لأساعد الملك. الملك هو من يتحمل تنزيل الدستور في المقام الأول. إنه رئيسي المباشر”، وآيته في ذلك أن ثمة بالمغرب ثلاثية لا يجب تجاوزها أو إغفالها: “هناك الدستور وهناك العرف وهناك المنطق”.
ويضيف في سياق آخر، وفي إشارة منه إلى محورية مكانة الملك مقارنة بمكانة رئاسة الحكومة: “إن كنتم تريدون مني أن أتنازع مع الملك، فابحثوا لكم عن رئيس حكومة آخر”.. بما معناه أن ثمة علاقة عمودية وتراتبية بينه بوصفه رئيس حكومة وبين الملك بوصفه رئيس الدولة، وليس ثمة بالمرة أي نية أو طموح من لدنه لاستنبات علاقة أفقية، فما بالك علاقة ندية أو تنافسية مع المؤسسة الملكية.
يبدو إذن أن رئيس الحكومة عمل على تأطير علاقته بالمؤسسة الملكية بناء على العرف أكثر ما بناها على نص أو روح الدستور. وهذا لوحده كاف لتفسير ثم تبرير طبيعة هدوء العلاقة بين طرفي معادلة السلطة التنفيذية بالمغرب في ظل الدستور الجديد.
بيد أن الأمر لم يبق على الحال ذاتها، إذ قبل شهور قليلة على حمى انتخابات السابع من أكتوبر، أصدر رئيس الحكومة التصريح التالي: إن “المغرب يتوزع بين دولتين: دولة رسمية بقيادة محمد السادس، ودولة ثانية لا يعرف من أين تستمد قراراتها وتعييناتها”.
هذا التصريح “الناري” يشي، بنظر الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بأن ثمة جهة أو جهات “غير مرئية”، تثوي خلف القرارات الكبرى وصناعة الخرائط الانتخابية، وهي التي تتحكم حقا في مفاصل الدولة بنية وبنيانا.
لم تقتصر أطروحة “التحكم” على رئيس الحكومة، بل جاءت أيضا على لسان وزيره في السكنى الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الذي أشار بالواضح الصريح إلى أن هذه الجهة معلومة وتوجد بالمحيط الملكي المباشر في شخص مستشار الملك مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة، المنافس الشرس لحزب العدالة والتنمية والمهدد المباشر للائتلاف الحكومي القائم.
ومع أن الملك قد وضع حدا لتلميحات رئيس الحكومة في خطاب مباشر صريح أواخر أغسطس/آب الماضي، ثم في بيان موجه للأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، يحذر في الأول من تبعات التشكيك في مصداقية الدولة، ويذكر في الثاني بحرمة الاقتراب من محيط الملك، مع ذلك أقول إن ما كان مضمرا طيلة الخمس سنوات الماضية، قد طفا على السطح في أواخر أيام حكومة عبد الإله بنكيران.
إن حديث بنكيران عن التحكم وإشارة الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية إلى مستشار الملك، لا يؤشران على خشية الرجلين من احتمال ترجيح كفة غريمهما السياسي في انتخابات السابع من أكتوبر، بل يعيدان (وإن بصورة غير مباشرة) طرح سؤال العلاقة بين مؤسستين دستوريتين لا يستطيع المرء تحديد أين تبدأ صلاحيات الواحدة منهما وأين تنتهي بالقياس إلى الأخرى.