كيف تجعل بعض قرارات المؤسسات العمومية حياتنا أسوأ؟
د.هشام المكي
ما العلاقة بين صلاة العيد وخوذة الدراجة النارية والسيجارة الإلكترونية ومحاربة السكن العشوائي والأسواق الممتازة؟
سيعرض هذا المقال الكثير من القصص الطريفة التي ستجعلك تنظر إلى هذه المواضيع المنفصلة بشكل مختلف تماما، والبداية من الولايات المتحدة الأمريكية:
حينما كان ريتشارد ثالر يدرس في كلية إدارة الأعمال، كان بعض طلابه يغادرون الحصة في وقت مبكر، وطريقهم الوحيد للخروج يمر عبر باب كبير مزدوج بمقبضين خشبيين. وعندما يصل المتسللون إلى هذا الباب يواجهون خيارين: أحدهما من وحي خبرتهم السابقة ويقول إن الخروج يتطلب دفع الباب. والثاني مستمد من التوجيه الضمني للمقبضين الخشبيين المصممان للامساك بهما ويدعوهم إلى جذب الباب، وتبين أن التوجيه الضمني يتغلب على الخبرة، فيبدأ كل طالب متسلل بجذب الباب. لكن الباب، الذي كان يفتح إلى الخارج، يقاوم المتسللين. ولكم أن تتخيلوا المواقف الطريفة التي تحدث، والحرج الذي يعانيه الطلبة المتسللون وهم محاصرون يصارعون الباب، بينما يتسلى أستاذهم وزملائهم بمشاهدتهم.
الدرس الأول: قد يبدو لنا أننا أحرار في اتخاذ الكثير من القرارات، لكن في الواقع إن ما نواجهه في حياتنا من اختيارات، قد يتأثر في الغالب بالعديد من التوجيهات الضمنية والخفية التي قد لا ننتبه إليها، لكنها مع ذلك تؤثر في حياتنا وفيما نتخذه من قرارات، فالطلبة لم يستطيعوا تجاهل الرسالة الواضحة التي كان يصدرها المقبض الخشبي الكبير: أنا هنا لتجذبني.
الحكاية الثانية بطلتها كارولين، مديرة خدمات التغذية لمدارس مدينة أمريكية. حيث لاحظت أن معظم الطلاب في المطاعم المدرسية يختارون أطعمة غير صحية؛ فقررت تغيير الطرق التي تعرض بها الأطعمة والشكل الذي ترتب به، دون إحداث أي تغيير في قوائم الطعام: وهكذا في بعض المدارس وضعت الحلويات أولا، وفي أخرى وضعت الجزر على مستوى النظر في أول صف وتم تأخير البطاطس المقلية إلى آخر صف في الأسفل… وكانت النتيجة مذهلة: باستطاعتنا زيادة استهلاك الطلبة للأغذية الصحية، دون التدخل في حريتهم للاختيار ودون تعديل قائمة الطعام، بل فقط من خلال إحداث تغييرات طفيفة على طريقة عرض الأطعمة.
الدرس الثاني: بإمكاننا التدخل لتحسين نوعية القرارات التي يتخذها الناس، بشكل يضمن مصالحهم وتحسين حياتهم، ويحافظ أيضا على حريتهم الكاملة في الاختيار، ويتحقق ذلك من خلال تصميم الاختيارات على نحو معين.
الحكاية الثالثة من المغرب، فمع اتساع رقعة التمدن، بدأت ألاحظ أن المدن الكبرى تتجه بشكل أسرع نحو التخلي عن العادات والتقاليد الأصيلة التي نشأنا عليها، فحينما أدخل أحد متاجر حي راقٍ في مدينة فاس وألقي السلام، أفاجأ بأن زبناءه يستديرون إلي من باب الفضول لمعرفة من ذلك الغبي الذي ما زال يتمسك بإلقاء التحية ثم يتابعون ما يفعلون بتجاهل تام لتحيتي… ويجعلني ذلك أشعر باستياء كبير. لكن في مدينتي الصغيرة حيث ولدت ونشأت، ما زال الناس يحرصون على رد السلام، ومساعدة المحتاج، واحتضان الغريب، لكن يبدو أن ذلك لن يستمر طويلا!
حيث تم افتتاح متجر متوسط يحاكي تجربة الأسواق الكبرى في طريقة الدخول والخروج وترتيب البضائع على الرفوف، مع وجود بائعتين بصفي انتظار، وقد نجح المتجر في اجتذاب الكثير من الزبناء الذين يبحث معظمهم عن إرضاء غريزة “التحضر” والتمدن. الأمر الطريف الذي حدث لي، هو أنني أجد نفسي لأول مرة في مدينتي الجميلة، أدخل متجرا وما من معنى ولا دافع لإلقاء السلام فيه: فباب الدخول يقودني إلى أول جناح عرض للبضائع، وأجده فارغا من الزبناء في الغالب، فعلى من سألقي التحية؟ ثم أبدأ في مصادفة مشترين مشتتين بين الرفوف، فهل أسلم على كل زبون التقيته؟ أسوأ ما يقلقني في هذا الأمر، هو أن سكان مدينتي الطيبين، يتلقون في كل مرة يلجون فيها هذا المتجر، تعلما اجتماعيا عمليا، مفاده أنه توجد سياقات باستطاعتك ألا تلقي فيها السلام، ومع مرور الوقت، سيبدأ الناس في التخلي عن آداب التحية في سياقات مختلفة، وينسون تدريجيا التأدب مع الآخرين والاكتراث لأمرهم، ويصبحون مثل سكان الحواضر الكبرى، الذين يجمعون أحيانا بين شدة التأنق في المظهر، وقمة البرودة في التعاطف الإنساني!
الدرس الثالث: توجيهات بعض القرارات قد يمتد تأثيرها السلبي إلى مجالات أخرى بعيدة عن مجالها الأصلي. فالمتجر لم يصمم عمدا ليساهم في التفكك الاجتماعي ويغير أخلاق مدينتي، وأصحابه مشهود لهم بالطيبوبة ومكارم الأخلاق؛ لكن طريقة التسوق فيه تعلم الناس تدريجيا التخلي عن التحية. إن الكثير من القرارات الصائبة في مجالات السياسة أو الفن أو الاقتصاد أو الفلاحة أو غيرها قد تكون وجيهة في مجالها الأصلي، لكن كلفتها الأخلاقية أو الحضارية أو المجتمعية باهظة، وتفوق أحيانا فائدتها المباشرة.
وإذا أردنا تركيب الدروس الثلاثة السابقة في حكمة مركزة، فإنها ستكون كما يلي:
إن الكثير من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو توجهات تجارية أو فنية، قد تكون مفيدة في مجالها الضيق، لكنها مكلفة على المستوى الأخلاقي أو الحضاري أو القيمي.. وهي تؤثر سلبا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية وغير واضحة للأفراد، وما تحفزه من “تعلمات” اجتماعية مضرة، رغم أن ظاهر الأمر يوحي بأن حرية الناس مكفولة وباستطاعتهم اختيار ما يخدم مصلحتهم..
تأملوا معي في هذه النماذج التي تثبت كيف أن بعض القرارات الجيدة قد تكون مضرة:
القصة الأولى:
حينما رخص المسؤولون الجمركيون في المغرب لنوعية جديدة من خوذات الدراجات النارية بزجاجها داكن اللون، لا شك أنهم أخضعوها لجميع اختبارات الجودة والسلامة، قبل أن يسمحوا بدخولها إلى السوق المغربية. لكن تبعات هذا الترخيص تتجاوز حماية السائقين وتقدم توجيهات ضمنية لم يتوقعها المسؤولون الجمركيون: فمعرفة السائق بأن ملامح وجهه محجوبة، يستدعي عنده حماس جميع المطاردات الهوليودية التي تخزنها ذاكرته، ويحفزه ذلك بشكل ضمني على القيادة المتهورة وتهديد سلامة المارة والسائقين الآخرين، خصوصا وأن حرج تعرف وجهه مرفوع عنه، وقد أثبتت العديد من أبحاث علم النفس السيبراني مثلا أن الأفراد يقومون بسلوكات مختلفة حينما يشعرون أن الناس لا يمكنهم التعرف عليهم؛
القصة الثانية:
حينما رخص المسؤولون للمتاجر ببيع السجائر الإلكترونية، فإنهم لم يتوقعوا أن تلك السجائر الجديدة تضاعف أعداد المدمنين اليافعين، إذ تقدم للمراهقين والمراهقات رسالة واضحة يصعب عليهم تجاهلها: “باستطاعتك أن تصبح شابا عصريا عبر تدخيني، وأضمن لك أنه لن يكشف أمرك من طرف والديك، حتى أنه يمكنك اختيار سجائر بنكهات الفواكه تترك رائحة طيبة!” وهكذا كلما صادفتُ تجمعا لمراهقين، ألاحظ أن أحدهم على الأقل يحمل سيجارة إلكترونية، يتناوب الأصدقاء على تدخينها. وهي سيجارة أنيقة، يمكن إخفاؤها بسهولة، ولا تترك على الثياب تلك الرائحة الكريهة للسجائر العادية.. ويمكن بسهولة خداع أي أم طيبة، إذا ما صادفت الرائحة الجديدة على الثياب، بكونها رائحة عطر لأحد الأصدقاء!
القصة الثالثة:
في مدينتي الصغيرة، قامت السلطات المختصة أخيرا بخطوة إيجابية تمثلت في هدم وتفكيك حي عشوائي كبير، تمهيدا لتعويضه بحي جديد منظم، يضمن سكنا كريما بجميع المرافق الضرورية من مدارس وغيرها. وقد كان ذلك الحي العشوائي بخلاف معظم أحياء المدينة الآمنة، مسرحا للاعتداءات وصراع العصابات الإجرامية… وبعد الهدم، تفرق سكانه بين أحياء المدينة واكتروا شققا في انتظار اكتمال تهيئة الحي الجديد.
لكن الذي حدث، هو أن بعض المنحرفين والمجرمين والمراهقين المتهورين الذين كان نشاطهم الإجرامي منحصرا في حيهم الأصلي، قد تفرقوا أيضا في جميع أحياء المدينة، فنقلوا معهم عاداتهم الإجرامية وسلوكاتهم العنيفة، وسياقتهم المتهورة للسيارات المتهالكة، وشتائمهم البذيئة، ومجاهرتهم باستعمال المخدرات إلى جميع الأحياء. فأصبحت الكثير من التجمعات السكنية الهادئة والآمنة تعاني من إزعاج شديد وقلق من التعرض للاعتداء. ولا تنحصر الكلفة الاجتماعية والأخلاقية لقرار الإخلاء الكلي في إزعاج سكان المدينة وتعريضهم للاعتداءات المتكررة فقط، بل يتعلق الأمر بتغيير هوية مدينة بأكملها، فالمنحرفون الموزعون على جميع الأحياء يقدمون خبرة إجرامية جاهزة لبعض المراهقين الذي يحملون استعدادا للانحراف، ويجعلونهم أكثر جرأة على تحدي قيم المجتمع وعادات المدينة، بل ويتعب رجال الأمن في التصدي لتلك الظواهر الإجرامية بعد أن تبعثرت المعطيات الاستخباراتية التي كانوا يتوفرون عليه وتفرق المنحرفون في كل مكان.. وقبل ذلك، حينما كان يظهر منحرف مبتدئ في أحد الأحياء، كان عليه بذل مجهود كبير للارتقاء في سلم الانحراف عبر مقاومة والديه الذين يرفضان طبعا أن يكون ابنهما منحرفا، بالإضافة إلى ضغط الجيران وسكان الحي.. لذا فإن ضغط المجتمع المحلي كان يفلح غالبا في محاصرة تلك الظواهر في بداياتها.. لكن المدينة تواجه الآن تعميما ممنهجا وقويا لظواهر غير أخلاقية وإجرامية، وهي أيضا نماذج ملهمة لمنعدمي الضمير وبعض المراهقين.
فقرار الهدم سليم بمعايير التخطيط العمراني وسياسات المدينة، لكن المسؤولين عنه، لم يتخيلوا أن طريقة تنفيذه ستكون مكلفة جدا على المستويات الأخلاقية والتربوية والاجتماعية والأمنية، فقرارهم يغير هوية المدينة بشكل كامل، وكأنهم أطلقوا عن غير قصد “فيروس إجرام” شديد العدوى.
ويمكن أن أستمر في سرد العديد من النماذج والقصص عن قرارات مختلفة مفيدة في مجالاتها، لكنها مكلفة بل مضرة جدا في مجالات أخرى:
فالتسويق الإعلامي المبالغ فيه للحكومة المغربية في وقت سابق لقرار الزيادة في أجور الأساتذة الجامعيين، جعلهم في مواجهة حقد اجتماعي يكاد يغلب ما يكنه لهم المجتمع من تقدير واحترام، بل وأصبح الأستاذ الجامعي في بعض السياقات الاجتماعية يجد نفسه مضطرا لتبرير استحقاقه لتلك الزيادة أمام مجتمع يعتبر أن مهامه تنحصر فقط في التدريس ويجهل المهام الأخرى التي تثقل كاهله؛
وإصدار قرار يمنع صلاة العيد في مساجد الأحياء ويحصرها فقط في مصلى مدينتي الصغيرة، يدفع المصلين إلى الانشغال بإيجاد مكان لركن سياراتهم في موفق سيارات المصلى البعيد الممتلئ عن آخره بالمصلين الذي لا يعرف بعضهم بعضا في الغالب، وبعد الصلاة يتعين على كل فرد أن يشق الصفوف المزدحمة بحثا عن سيارته ليعود إلى منزله ويغلق بابه عليه بعد صلاة تغلب عليها المشقة والتدافع بدل السكينة والتراحم. لكن قبل ذلك القرار، كانت صلاة العيد تُقام أيضا في مساجد الأحياء، حيث يذهب الجميع في طمأنينة إلى مساجدهم القريبة التي تسع جميع سكان الحي؛ وبعد الصلاة يعود السكان في مسار ممتع يتخلله تبادل التهاني بين الجيران، ودعوات شرب الشاي المغربي وتناول الحلوى التقليدية، حيث حكى لي صديق عزيز أنه كان يستغرق ساعة كاملة في رحلة العودة إلى منزله من مسجد يبعد أقل من ثلاثمائة متر فقط عن بيته، وهي رحلة مليئة بالطمأنينة والكرم والتضامن الاجتماعي. فهل كان المسؤول عن قرار منع صلاة العيدين في مساجد الأحياء يتوقع أنه بقراره هذا يكلف السكان مشقة غير مبررة، ويقضي على ما تبقى من قيم الجوار والتماسك الاجتماعي؟
خلاصة القول، إن كثيرا من القرارات التي قد تتبناها جهات حكومية، أو يصدرها مسؤولون مختلفون في مجالات السياسة والاقتصاد والفن والتعليم وغيرها… قد تكون قرارات صائبة في مجالها الضيق، لكنها مكلفة على المستويات الأخلاقية أو الحضارية أو القيمية أو المجتمعية عموما.. وهي تؤثر سلبا في المجتمع من خلال ما قد تتضمنه من توجيهات خفية للأفراد، وما قد تحفزه لديهم من “تعلمات” اجتماعية مضرة، تدفعهم إلى اكتساب عاد ات اجتماعية سلبية أو التخلي عن ممارسات اجتماعية مفيدة..
وبهذا المعنى، فكل قرار -مهما كان مدروسا- ينحصر في مجاله الضيق، ولا يستحضر تأثيراته المحتملة في الحياة الاجتماعية بأبعادها المركبة، ولا يحرص على تحسين حياة الناس، هو قرار عشوائي. لذا لا ينبغي الاكتفاء فقط بدراسة الجدوى الاقتصادية لما قد نتخذه من قرارات، وإنما ينبغي أيضا دراسة جدواها القيمية والأخلاقية والحضارية، وإلا فإنه من الوارد جدا أن تكون تلك القرارات جد مكلفة!
تنويه:
هذا المقال هو توسيع لفكرة مركزة نشرت سابقا على الجزيرة.نت بعنوان: “كيف تكون القرارات الحكومية الجيدة.. مضرة؟!“