الرئيسية | سياسة

كواليس تحت الطاولة .. كيف أقنعت الرباط موسكو بعدم اعتراض القرار الأممي؟

نشر قبل 3 ساعة

الرباط اليوم

اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2797 المتعلق بقضية الصحراء المغربية دون أن تستخدم روسيا حق النقض “الفيتو”، وهو تطور مهم اعتبرته الرباط مكسباً دبلوماسياً واضحاً، خصوصاً أن موسكو كانت في السنوات الماضية أحد الأطراف القادرة على تعطيل أي مسار دولي لا ينسجم مع مصالحها. غير أن هذا الموقف الروسي لم يكن مفاجئاً بالنسبة للمراقبين، بل جاء نتيجة مسار طويل من العمل الدبلوماسي الهادئ الذي انتهجه المغرب، والذي مكّنه من الحفاظ على علاقة متوازنة مع موسكو رغم تقلبات المشهد الدولي، خاصة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

فمنذ بداية النزاع في أوكرانيا، اختار المغرب موقف الحياد الإيجابي، ولم ينخرط في موجة الاصطفافات التي قسمت العالم إلى معسكرين، بل فضّل التركيز على مصالحه الوطنية والإقليمية. هذا الموقف أثار تقدير الجانب الروسي، حيث وصف السفير الروسي في الرباط فلاديمير بايباكوف السياسة المغربية تجاه الحرب بأنها “متزنة وعاقلة”، في وقت كانت الضغوط الغربية تحاول دفع دول عدة نحو تبني مواقف أكثر حدّة. وقد انعكس هذا الحياد في امتناع المغرب عن التصويت على قرارات داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة تستهدف روسيا بشكل مباشر، كما حافظ على خطاب يدعو للحوار والحل السلمي، الأمر الذي جعل موسكو تعتبر الرباط شريكاً غير معادٍ في لحظة دولية بالغة التعقيد.

وتعزز هذا الانطباع عندما فتحت المملكة مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية خلال فترة الحظر الجوي الأوروبي، حيث واصلت شركات روسية مثل Azur Air وNordwind عبور الأجواء المغربية أو الهبوط في مطارات المملكة، استناداً إلى الاتفاقية الثنائية الموقعة سنة 2016 خلال زيارة الملك محمد السادس إلى موسكو. وقد اعتبر مراقبون هذا القرار رسالة سياسية هادئة من الرباط تجاه موسكو، تؤكد أنها لا تنخرط في سياسة العزل والعقوبات، بل تتعامل مع الاتفاقيات الدولية بقدر كبير من الاستمرارية والاحترام، وهو ما عزز ثقة روسيا في سلوك المغرب.

وإلى جانب الجانب السياسي، شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين دفعة مهمة، خاصة في قطاع الطاقة. فقد أظهرت تقارير دولية مثل “بلومبرغ” و“رويترز” أن المغرب رفع وارداته من الغاز والديزل الروسيين منذ سنة 2023، في وقت كانت فيه موسكو تبحث عن أسواق بديلة لتعويض خسائرها في أوروبا بعد فرض العقوبات الغربية. وقد اعتبرت روسيا هذا التعاون نموذجاً لشراكة لا تتأثر بالتجاذبات السياسية، بينما استفاد المغرب من تنويع مصادر الطاقة وتقليص الضغوط على سوق المحروقات الداخلية.

كما امتد التعاون بين الرباط وموسكو إلى قطاع الصيد البحري، حيث وُقّعت اتفاقية جديدة تتيح للسفن الروسية مزاولة أنشطتها في السواحل الأطلسية، بما في ذلك الأقاليم الجنوبية، وذلك في سياق تزامن مع تجميد اتفاقية الصيد والفلاحة بين المغرب والاتحاد الأوروبي. وقد مثّل هذا الاتفاق خطوة ذات بعد اقتصادي واستراتيجي، مكّنت كلا الطرفين من توسيع تعاونهما بعيداً عن الضغوط الأوروبية، ورسخت لدى روسيا قناعة بأن المغرب شريك موثوق قادر على اتخاذ قرارات مستقلة في الملفات الحيوية.

وهكذا، يظهر بوضوح أن الموقف الروسي في مجلس الأمن، خلال التصويت على القرار 2797، لم يكن سوى نتيجة طبيعية لمسار طويل من التقارب الهادئ والبراغماتية الدبلوماسية. فقد استطاع المغرب، عبر مزيج من الحياد المدروس، والمرونة في المواقف، وتوسيع التعاون الاقتصادي، ومن خلال احترامه للاتفاقيات القائمة رغم الظروف الدولية المعقدة، أن يضمن لنفسه موقفاً روسياً غير معارض في ملف الصحراء، بل أقرب ما يكون إلى “الحياد الإيجابي” الذي يخدم المصلحة المغربية.

إن مرور القرار الأممي دون فيتو روسي ليس مجرد واقعة دبلوماسية، بل هو تتويج لانضباط سياسي ودهاء استراتيجي يميز الدبلوماسية المغربية، التي تعرف كيف تدير علاقاتها مع القوى الكبرى دون افتعال خصومات ولا الدخول في محاور مغلقة. لقد أدركت الرباط أن قوة سياستها تكمن في استقلاليتها، وفي قدرتها على بناء شبكة مصالح مع دول متنوعة، تجعلها اليوم قادرة على تحقيق مكتسبات مهمة في واحدة من أكثر القضايا حساسية بالنسبة للدولة المغربية. وبذلك يتحول الصمت الروسي في مجلس الأمن إلى مكسب استراتيجي يعكس نجاح المغرب في توظيف التحولات الدولية لصالحه، من دون صدام أو استقطاب، بل عبر دبلوماسية هادئة وفاعلة أثمرت ما لم تستطع سنوات الخطابات الحادة تحقيقها.

blank
blank